الحكواتي قصة قصيرة







منحني الظهر متكئ على العصى ، يلبس العمامة العربية ، يحمل كتابا كبير الحجم ، غلافه من الجلد المدبوغ ، قد رسمت عليه صورا محاها الزمن ، يشق طريقه بين الصفوف المتراصة ليتوسط الجمع ، يجلس فتصمت الأصوات من حوله .
يفتح الكتاب فتتعلق العيون به ، ثم يتنحنح مرتين ويتأمل الصفوف التي أمامه ثم يقرأ
_ لقد توقفنا يا سادة يا كرام عندما نادا شداد إبنه عنترة أن أغثنا ، ولكن عنترة جلس في محله ولم يقم ، بل تشاغل بالأغنام وقال لإبيه شداد إن العبد لا يحسن  الضرب إنما يحسن الحلب و الصر .
هنا غضب شداد و حاول ردع الغزاة مع قومه ، فلما أدرك أنهم مهزومون وأن نسائهم سوف يأسرن نادا عنترة من جديد أن أغثنا ، فما كان جواب عنترة إلا مثل الجواب السابق .
هنا أخذت العيون تنظر لبعضها البعض ، هذا ليس عنترة الذي نعرف ،  أخذت قلوبهم تخفق ، وأعينهم تتعلق بالشيخ وكتابه .
_ ثم لما أدرك شداد الهزيمة ، وعلم أنهم مهزومون نادا عنترة وقال له يا بني  أغثنا وسألحقك بي ، هنا قام عنترة إبن شداد إلى سيفه ، وأخذ يقابل الصفوف بصدره العاري ، كأنه شيطان من الجن طلع على الناس ، فلا فارس يقابله إلا قتل ، ولا يسلم من سيفه إلا من هرب ، كأن عنترة بن شداد جيشا كاملا لوحده ، لا يحمل إلا سيفا بلا درع ولا خوذة ، وعندما أدرك الغزاة أنه سيقتلون ، تركوا النساء والغنائم وهربوا من ذالك الشيطان الاسود .
هنا تهللت  العيون فرحا ، وتحركت الايادي لأعلى من فرط الحماس ، وأشتعلت العيون بنار الحماس .
_ وبعد أن هرب الغزاة ، صار عنترة إبن زبيبة ، عنترة إبن شداد ، وبعد أن كان خادما في بيت أبيه صار إبنا لأبيه ، وفارسا لقومه ....
العيون تتعلق بصوت الشيخ المبحوح ، وهو يسترسل في حكاية عنترة إبن شداد و فروسيته ، على ضوء الفنر ، لا تسمع سوى صوت الحكواتي ، وهمسات هنا وهناك .
هذا ما لدينا يا سادة يا كرام ، ونلقاكم الأسبوع القادم لنكمل ما بدأنه اليوم .
هنا تتعالى الاصوات الإستهجان ، طلبا للمزيد ، ولكن الشيخ نزل من على عرش الحكايا ، ليهبط لعالم الواقع .
كانت تلك هي آخر مرة يعتلي بها الحكواتي منصته ، فلم تعد الايام كما كانت ، ولم يعد أحد يستمع له بعد أن دخل الراديوا ، وصار صوته هو الذي يقطع على الجميع  هيامهم بصوت المطربة التي تأتي من تلك الألة .
وفي يوم ما ، غاب الحكواتي عن الوجود ، بعد أن سرد للناس السيرة الهلالية ، والزير سالم ، وأيام العرب ، وسيف الدين ذي يزن ، غاب ولم يفتقده سوى أهله وأحبابه .
وفي غرفته كانت العمامة العربية  والعصى على السرير ، وبالقرب من السرير ، كتب عن فرسان ، غابت شمسهم ، مع من كان يسرد حكاياتهم .
وبين يوم وآخر ، كان يسمع صوت من غرفته ، صوت عنترة والزير وسيف ، أصوات الفرسان تجلس أمام الحكواتي لتستمع لحكاياته .

تعليقات

المشاركات الشائعة